إزالة تمثال الراوندوزي .. أول خطوة نحو التعايش الحقيقي

مقالات:خالد الياس رفو
في زمن نمدّ فيه أيدينا للحوار، ونبذل جهدًا حقيقيًا لبناء تعايش قائم على الحقيقة والاحترام المتبادل، وبعد أن قطعنا شوطًا كبيرًا في إثبات حقيقة الديانة الإيزيدية، كونها أقدم دين حيّ ومن أوائل الديانات التوحيدية، وتاريخها أقدم من الديانات الإبراهيمية، يخرج علينا من لا يزال يبرّر القتل، ويمجّد الجلاد، ويُمعن في تشويه ذاكرة الضحايا.
الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن محمد الراوندوزي، المعروف بـ”ميري كور”، لم يكن بطلًا ولا مدافعًا عن النفس، بل قاد واحدة من أبشع حملات الإبادة الجماعية ضد الإيزيديين في بدايات القرن التاسع عشر. فقد قتل الآلاف، ودمّر عشرات القرى، وسبى عشرات الآلاف من النساء والأطفال، بل وقدّم بعضهن كهدايا للعثمانيين ولزعماء عرب متحالفين معهم.
رغم هذا، يحاول البعض اليوم قلب الوقائع، زاعمين أن الإيزيديين هم المعتدون، وأن الراوندوزي كان ضحية دفاع عن النفس. أيّ دفاعٍ هذا الذي يبدأ بالمجازر وينتهي بالسبي؟ إن هذا التزوير ليس مجرد خطأ في السرد، بل اعتداء صارخ على ذاكرة التاريخ، وطعن جديد في كرامة الضحايا.
أما الأمير علي بك، فقصته صفحة أخرى في سجل الخيانة. لم يُقتل في معركة، بل دُعي إلى ديوان الراوندوزي بحجة السلام، وهناك طُلب منه إشهار إسلامه ليتم الاعتراف به، فرفض بشجاعة ووفاء لدينه وشعبه، فاغتيل غدرًا في طريق عودته إلى شيخان، في الموقع المعروف اليوم بشلال كلي علي بك. إن من يبرر هذا الفعل أو يتغاضى عنه، إنما يشترك في الجريمة معنويًا، وإن بعدت به المسافة عن الزمن والمكان.
التاريخ يعلمنا أن الاعتراف بالحقيقة ليس ضعفًا، بل دليل شجاعة ومسؤولية. حين كشفت ألمانيا عن تعاون الرئيس بول فون هيندنبورغ مع هتلر، لم تُنكر الأمر، بل بادرت مدينة مونستر إلى تغيير اسم الشارع الذي كان يحمل اسمه، بعد أن تبيّن دوره في تمهيد الطريق للنازية. لم يكن ذلك إنكارًا للماضي، بل تصحيحًا له، ووضعًا للنقاط على الحروف.
بدلًا من أن يُهاجَم الإيزيديون أو يُكفَّروا، وبدلًا من أن يُجمَّل الجلاد وتُنسى الضحية، يجب على حكومة إقليم كردستان أن تتخذ خطوات جريئة ومسؤولة، تبدأ بإزالة تمثال محمد الراوندوزي، ومحو اسمه من كتب التاريخ كرمز قومي. تمجيد القتلة لا يُبني مجتمعات، بل يرسّخ الانقسام ويشرعن الظلم. إن إزالة التمثال، وإعادة كتابة هذه الحقبة من التاريخ بصدق — وليس فقط فيما يخص الراوندوزي فحسب، بل جميع من كان لهم دور أو يد في ظلم واضطهاد وإبادة الشعب الإيزيدي — هو جزء من إعادة الحقوق المعنوية لمن راحوا ضحية فتاوى الحقد باسم الدين.
كما يجب، وبقوانين صارمة ومحايدة، محاسبة كل رجل دين يستخدم منبره لنشر الكراهية والتحريض الديني ضد أيّ مكوّن من مكوّنات المجتمع، فالدين لا يكون دينًا إلا حين يحمي الإنسان، لا حين يُستخدم كسلاح ضده.
إن التعايش لا يُبنى بالشعارات، بل بالاعتراف، والمصالحة لا تبدأ بالسكوت، بل بوضع اليد على الجرح. لن نصمت عن التحريف، ولن نساوم على الحقيقة. يجب ألا يُحرّف التاريخ، والضحايا لا يُنسَون. العدالة لا تبدأ بالإنكار، بل بالاعتراف.