التطرف الديني.. طاعون العصر الذي يحصد الأبرياء

مقالات / خالد الياس رفو
في عالم يئن تحت وطأة الكراهية والصراعات ، بات التطرف الديني طاعوناً معاصراً يفتك بالمجتمعات بلا رحمة ، يقتل بلا تمييز ، ويشرعن سفك الدماء تحت رايات دينية مزعومة .
لم تعد الجريمة فعلاً فردياً عابراً ، بل تحولت إلى مشروع عدواني تغذيه جماعات متعطشة للعنف ، تستغل النصوص الدينية لتبرير الذبح والتنكيل ، وتسعى لفرض رؤيتها السوداوية من خلال الخوف والإرهاب .
مأساة تتجدد في دمشق .. الصلاة تتحول إلى دماء ، آحد فصول هذا الجنون الدموي كان الهجوم الوحشي على إحدى الكنائس في دمشق ، حيث سفكت دماء أبرياء لم يكن لهم من ذنب سوى أنهم اجتمعوا للصلاة والدعاء للسلام .
كم من أم تمزق قلبها ، وكم من طفل حرم من دفء أسرته ، بسبب أيادي ملوثة بالكراهية والحقد ، لا تعرف للرحمة طريقاً .
الإبادة لا تفرق بين طائفة وأخرى .. والعلوين والساحل والجنوب شهود على ذلك .
ليست مأساة التطرف محصورة بأقلية دون أخرى ، فكما ذاق الأيزيديون مرارة الإبادة ، عانى العلوين في الساحل السوري من حملات قمع وتهجير واقتلاع جماعي من جذورهم ، طمست هويتهم ، وصودرت أرضهم ، وسط صمت مطبق .
وفي الجنوب ، لم تكن محافظة السويداء بمنأى عن هذا الجحيم ، فقد تعرضت لاعتداءات وحصار ممنهج ، واغتيالات متكررة ، وجرائم استهدفت مجتمعاً بأكمله لمجرد مطالبته بالكرامة .
أما ما يعرف بالإبادة الدرعية ، فقد عادت بصور أكثر حدة على أيدي إرهابيي ” جبهة النصرة ” بقيادة الجولاني ، وأُعيد إنتاج خطاب العنف الأموي بلباس جديد ، تحت رايات تدعي الثورة لكنها تمارس الإرهاب والتكفير .
صمت دولي ودعم عربي .. شراكة غير معلنة في الجريمة
ورغم وضوح الجريمة ، لم يكن الصوت العربي الرسمي إلا غطاء للسلطة القائمة في دمشق ، التي لطالما مارست القمع باسم الدولة ، واعتبرت كل صوت معارض تهديداً ينبغي سحقه .
أما الغرب ، فقد اختار الصمت أو الاكتفاء بالإدانات الشكلية ، بينما استمرت آلة القتل تعمل دون هوادة ، وسط تواطؤ دولي مخز .
الأيزيديين .. جرح نازف في ذاكرة الإنسانية
ولا يمكن الحديث عن التطرف و الإرهاب دون استحضار واحدة من أبشع الجرائم التي شهدها العالم المعاصر ” جريمة الإبادة الجماعية بحق الإيزيديين ” ، في سنجار ومحيطها ، ارتكب تنظيم داعش الإرهابي مجازر مروعة ، حيث تحولت المدن والقرى إلى مسارح للقتل الجماعي ، والسبي ، والتهجير القسري .
اختطفت آلاف النساء والأطفال ، وبيعوا في أسواق النخاسة ، ودفن الأبرياء في مقابر جماعية تحت شعارات دينية ورايات سوداء حاولت شرعنة أبشع صور الإبادة والانتهاك الإنساني . لقد شكلت مأساة الإيزيديين دليلًا صارخاً على خطورة التطرف حين يتمكن من العقول ويجندها للكراهية والتطهير العرقي .
المنابر التي تبث السموم .. بدلاً من الهدى
إن المسؤولية الكبرى تقع على أولئك الذين يرتقون المنابر ، لا لنشر الوعي أو الرحمة ، بل لتحويلها إلى منصات لنفث السموم ، وتحويل عقول الشباب إلى قنابل موقوتة . هؤلاء لا ينشرون الدين ، بل يبثون ظلام الحقد والتعصب ، ويساهمون في خراب الأوطان ، وتمزيق المجتمعات ، وتحويل البيوت الآمنة إلى ساحات للعزاء والحزن .
الفصل بين الدين والدولة .. حماية للإيمان والدولة معاً
بات من الضروري اليوم الفصل بين الدين والدولة ، ليس كعداء للدين ، بل كحماية له من التسييس والتشويه .
إن الدفاع عن الدولة من هيمنة المتطرفين هو السبيل لضمان العدالة والمساواة ، حتى لا تتحول العقائد إلى أدوات للتمييز والقتل ، وحتى لا يبقى صوت العقل والرحمة مغيّباً خلف شعارات جوفاء .
إصلاح التعليم .. الخطوة الأولى نحو التغيير
التغيير الحقيقي يبدأ من المدرسة ، إذ لا بد من ثورة شاملة في المناهج الدراسية ، تقصي كل فكر يبرر العنف ، وترسخ مبادئ الانفتاح ، والتسامح ، واحترام الآخر .
التعليم يجب أن يصنع إنساناً حراً ، يؤمن بالسلام ، ويتقبل الاختلاف ، بدلاً من أن يرفضه أو يعاديه .
المجتمع والإعلام .. جبهة مواجهة لا غنى عنها
مواجهة التطرف ليست مسؤولية جهة واحدة ، بل تتطلب تحركاً جماعياً صادقاً . على الإعلام أن يكشف الفكر المتطرف ويعري القتلة ، لا بأسلحتهم فقط ، بل بأفكارهم المسمومة .
كما يجب أن تنهض مؤسسات المجتمع المدني بدورها التوعوي في كل حي وبيت ومدرسة .
وعلى الشعوب أن ترفع صوتها عالياً في وجه من يبرر سفك الدماء باسم الدين ، فالصمت في هذا السياق ليس حياداً ، بل شراكة في الجريمة .
الصمت تواطؤ .. والمواجهة ضرورة
كفى تبريرات ، وكفى هذا الصمت القاتل ، فالتطرف لا يولد من فراغ ، بل في بيئة تستسهل الدماء وتتغاضى عن التحريض . وما لم نكسر هذا الحبل السري بين الخطاب المحرض والعقول المستسلمة ، سيظل الأبرياء يدفعون الثمن .
نحن والإنسانية على المحك
إن لم نواجه هذا الشر بجرأة ، وعقول يقظة ، وقلوب تنبض بالعدالة ، فإننا سنسلم أبناءنا لعالم يزداد ظلمة ووحشية يوماً بعد يوم .
لقد آن الأوان لصناعة سلام حقيقي ، يبدأ من الكلمة الصادقة ، وينتهي بالفعل المسؤول .