جمايا شرفدين في جبل شنكال: دراسة في الطقوس والمكانة الدينية في المجتمع الإيزيدي

مقالات : حيدر عربو اليوسفاني
الملخص:
يتناول هذا البحث دراسة أحد أهم الطقوس الدينية في الديانة الإيزيدية، وهي “طوافة شرفدين” أو “جمايا شرفدين”، التي تُقام سنويًا في جبل شنكال شمال العراق. يسلط البحث الضوء على الجوانب الروحية والاجتماعية لهذه المناسبة، وعلى المكانة الخاصة التي يحتلها مزار شرفدين لدى أتباع الديانة الإيزيدية، كما يناقش الخلفية التاريخية للمزار ودوره في تنظيم الحياة الدينية والاجتماعية لدى الإيزيديين في منطقة شنكال.
مقدمة:
تُعد الديانة الإيزيدية من الديانات القديمة التي حافظت على خصوصيتها الثقافية والروحية، رغم ما تعرض له أتباعها من اضطهاد تاريخي. وتُشكل الطقوس والمناسبات الدينية جزءًا مهمًا من هوية الإيزيديين الجماعية، ومن أبرز هذه المناسبات “جمايا شرفدين” التي تُقام سنويًا في جبل شنكال. يحتل مزار شرفدين مكانة مرموقة في العقيدة الإيزيدية، ويُعد بعد معبد لالش من أهم الأماكن المقدسة لديهم.
أولاً: الموقع والأهمية الدينية لمزار شرفدين
يقع مزار شرفدين في شمال جبل شنكال، ويُعتبر ثاني أقدس المزارات لدى الإيزيديين بعد معبد لالش. يُنسب هذا المزار إلى الولي شرفدين، الذي يُعتقد أنه أُرسل إلى جبل شنكال بقرار من محفل لالش قبل أكثر من 800 عام، حيث استقر في المنطقة مدة تجاوزت 16 سنة.
أسس شرفدين خلال فترة إقامته مجموعة من القوانين التي هدفت إلى تنظيم الشؤون الدينية والاجتماعية، من بينها تخصيص نسبة 10% من واردات المنطقة لدعم الفقراء والحالات الإنسانية، بالإضافة إلى وضع تسعيرة موحدة للمواد الأساسية. وقد التزم المجتمع الإيزيدي بهذه القوانين حتى اليوم، مما يعكس عمق تأثيره التاريخي.
ثانياً: طقوس “جمايا شرفدين”
تُقام طوافة شرفدين سنويًا في منتصف شهر أيلول بحسب تقوم القمري، وتستمر ليومين، حيث تُعد هذه المناسبة عيدًا روحيًا واجتماعيًا يُشارك فيه الإيزيديون من مختلف الأعمار والفئات.
أ. اليوم الأول (الخميس):
يبدأ الزائرون بالتوافد إلى المزار.
تُذبح الذبائح وتُقدم الخيرات “نذورًا” للولي شرفدين.
تُقام الأدعية والتضرعات لتحقيق الأمنيات، وبثّ السلام والمحبة بين الناس.
ب. اليوم الثاني (الجمعة):
يتم تنصيب “بريات” المزار (الرايات الدينية)، بعد تعميدهن بماء “بئر شرفدين”.
تُتلى النصوص الدينية من قبل رجال الدين و”مجيوِر” المزار.
تمشي خلفهم الحشود الجماهيرية، تتقدمهم امرأة تحمل جرة ينبعث منها دخان ونار خفيفة، على إيقاع الدفوف التي يعزفها “القوالون”.
تُجرى مزايدة للحصول على “البريات”، ثم يتم تثبيتها داخل قبة المزار.
تُختتم الطقوس بتناول وجبة طعام جماعية تُعرف بـ”شيلانا شرفدين”، في جوّ من الألفة والمشاركة الاجتماعية.
ثالثاً: دلالات الجمايا الروحية والاجتماعية
تُعد جمايا شرفدين مناسبة لغفران الخطايا ونزول الرحمة والعفو والبركة، بحسب المعتقد الإيزيدي. كما تعكس تمسك الإيزيديين بعقيدتهم وأرض أجدادهم رغم ما مروا به من محن، خاصة محاولات تنظيم داعش لتدمير مزار شرفدين خلال احتلالهم لشنكال عام 2014، حيث تعرض المزار لأكثر من 17 محاولة تدمير.
الخاتمة:
تُجسد جمايا شرفدين بُعدًا دينيًا وروحيًا عميقًا في الثقافة الإيزيدية، وتمثل مناسبة للاحتفاء بالتراث، والتضامن المجتمعي، والتجديد الروحي. كما أن استمرار إقامة هذا الطقس الديني رغم كل التحديات، يعكس الإصرار الإيزيدي على البقاء والصمود، والحفاظ على الهوية الدينية والثقافية.تبرز جمايا شرفدين كنموذج حيّ لاستمرارية الإيمان الإيزيدي وارتباطه العميق بالمكان والهوية. هذه المناسبة ليست مجرد طقس ديني، بل فعل مقاومة ثقافية ضد محاولات الإبادة والتهميش، حيث يُعيد فيها الإيزيديون تأكيد انتمائهم إلى أرضهم وتاريخهم.
وإذ تُظهر طوافة شرفدين تلاحمًا بين الطقس الديني والموروث الاجتماعي، فإنها تمثل أيضًا دعوة للحوار بين الأديان واحترام التنوع الديني والثقافي، في ظل عالم يميل إلى الإقصاء التشدد.