شاه ميران، أسطورة الحية التي حملت سر الخلود

مقالات/سفيان ميرزا

في ثقافات الشعوب القديمة، لا شيء يظهر عبثًا.
كل رمز ينبت من حاجة داخلية لفهم الحياة والموت،
“الخير والشر، الزمن والخلود”.

بين هذه الرموز، تحتل الحية مكانة خاصة. تظهر الحية ككائن يتجاوز الطبيعة، وكأنه رسول بين الأرض والسماء، بين الفناء والديمومة. عندما ننظر بعين المتأمل في الرموز التي حفرت ذاكرة البشرية، يسطع أمامنا حضور الحية في الثقافة الإيزيدية الكوردية عمومًا، خاصة في أسطورة شاه ميران او شاه ماران، كما في الملاحم السومرية وأسطورة الخلق التوراتية.

شاه ميران، في الوجدان الإيزيدي والكوردي، ليست مجرد حكاية، بل عمق ذاكرة. امرأة برأس بشري وجسد أفعى، تحمل أسرار الحكمة القديمة. لغويًا، يكشف الاسم سر القصة: “شاه ميران” تعني “ملكة الحيات”، حيث “مار” بالكوردية تعني الحية و”ماران” جمعها. الاسم وحده يشير إلى أن هذه الشخصية ليست خرافة محلية، بل رمز أصيل للقيادة على المعرفة السرية، الحكمة الخفية التي لا تمنح إلا لمن يستحق. ليس عبثًا أن نجد رسمتها حتى اليوم فوق أبواب بيوت الإيزيديين، أو صورة الحية السوداء مطبوعة على جدار معبد لالش، وكأن الذاكرة الجمعية تأبى أن تنسى هذا المعنى العميق.

لا يمكن لأي باحث يتأمل هذه الرموز أن يغفل عن الترابط المذهل بين حكاية شاه ميران وأسطورة الخلق التوراتية. في سفر التكوين، تظهر الحية كوسيط للمعرفة، تقنع حواء بالأكل من شجرة المعرفة. الحية هنا لا تظهر كعدو مطلق، بل ككائن يمنح الإنسان وعيه الأول، مقابل ثمن الفقد والطرد من الجنة. هي تقدم المعرفة، لكنها تفرض الألم. تمامًا كما تفعل شاه ميران، حين ترتبط بالحكمة والرؤية التي لا يملكها البشر العاديون.

وفي ملحمة كلكامش، تعود الحية لتلعب الدور المحوري نفسه. بعد رحلة مضنية، يحصل كلكامش على عشبة الخلود، لكنه يفقدها حين تأتي الحية وتسرقها، لتجدد حياتها بجلدها الجديد. الحية هنا لا تسرق عبثًا، بل تؤكد أنها الحاملة السرمدية لسر الخلود والتجدد، مانحة للإنسان درسًا حتميًا عن حدوده.

هذه التشابهات ليست مصادفة. في كل أسطورة، تظهر الحية كجسر بين البراءة والوعي، بين الموت والحياة، بين الجهل والمعرفة.
القصص جميعها تسأل الإنسان سؤالًا أبديًا:
هل يستحق الوعي كل هذا الألم؟
وهل الخلود يستحق فقدان البراءة؟

الإيزيديون، كأحفاد لهذا الإرث العميق، لم ينسوا. في طقوسهم، في معمارهم، في نقوشهم، يحتفظون بالحية كرمز للحكمة والشفاء والحماية. حتى في أسطورة سفينة نوح لديهم، نجد الحية تسد بثقلها فتحة السفينة، فتمنع غرقها، حافظة للحياة بدل أن تكون سبب فنائها.

هذا الإصرار على حفظ الرمز عبر الأجيال ليس مجرد تقليد، بل تعبير عن قناعة داخلية بأن سر الحياة لا يكتمل دون فهم حكمة الظل.

ولعل المدهش أن معظم حضارات العالم القديم، من المايا إلى مصر إلى الصين، احتفت بالحية بنفس المعاني: الحكمة، الحماية، والبعث. هذه التكرارات تثبت أن الحية ليست أسطورة محلية، بل رمز كوني مشترك.

عندما نعيد قراءة رسمة شاه ميران أو شاه ماران على جدران بيوت الإيزيديين والكورد عمومًا، أو نتأمل صورة الحية السوداء على جدار لالش، لا ننظر فقط إلى نقوش جميلة أو رموز دينية. نحن نصغي إلى صدى سؤال الإنسان الأول:
من نحن؟ وإلى أين نمضي؟

شاه ميران، بجسدها المتعرج ونظرتها المترقبة، تهمس لكل من يجرؤ على الإصغاء: الحكمة مكلفة، والخلود ليس هدية مجانية، بل رحلة شاقة مليئة بالتحول والألم.

الحية التي أغوت حواء، التي سرقت الخلود من كلكامش، التي أنقذت سفينة نوح، ليست سوى خيط واحد في نسيج رمزي واحد. كل قصة تضيف طبقة جديدة، دون أن تغير الحقيقة الجوهرية: أن الإنسان، منذ فجر وعيه، أدرك أن سر الحياة والموت لا يسكن في الضوء وحده، بل في الأعماق أيضًا.

لهذا، لم تمت رموز الحية، ولن تموت. لأنها تعبر عن الحقيقة العميقة كما هي:
مؤلمة، جميلة، ساحرة وخطيرة في آن واحد.

حين ترى طفلًا صغيرًا في بيت إيزيدي او كوردي يرسم شاه ميران، أو تلمح نقش الحية السوداء في لالش،
فأنت أمام صدى رحلة أزلية للبشرية.

رحلة بدأت حين همست الحية للإنسان أن يعرف.
رحلة كلكامش وهو يطارد الخلود.
رحلة نوح وهو يبحث عن خلاص العالم وسط العاصفة.
رحلة الإنسان الدائمة نحو الحكمة، مهما كان الثمن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى