معبد لالش النوراني روح وحضارة تتحدى الزمن

مقابل / خالد الياس رفو

الأيزيديين شعب عريق تعود جذورهم إلى حضارات وادي الرافدين القديمة يحملون عقيدة روحية وفلسفية فريدة غير تبشيرية تقوم على الإيمان بالواحد الأحد وبالملائكة السبعة الذين يمثلون أركان الكون وحماته الروحيين .
إنها من أقدم الديانات الحية في العالم وما تزال محافظة على طقوسها ورموزها رغم آلاف السنين من الظلم والاضطهاد والإبادة والتشريد .
ورغم أن عددهم اليوم يتجاوز المليون بضع مئات الآلاف موزعين بين شمال العراق وبلدان الشتات فإن كل فرد منهم يمثل شاهداً حياً على إرادة شعب رفض أن تمحى هويته الثقافية والدينية .
وفي قلب هذا التاريخ الطويل من التضحية والصمود يتربع
” معبد لالش النوراني ” في شمال قضاء الشيخان بمحافظة نينوى كأقدس مكان عند الأيزيديين ليس مجرد بناء ديني أو موقع أثري بل رمز خالد للروحانية والارتباط العميق بين الإنسان والكون وفضاء نورانياً يجسد رحلة الروح نحو النور والسلام وقصة شعب حافظ على جذوره العريقة ووجوده الإنساني رغم كل محاولات الإبادة .

لالش .. حين تتحول العمارة إلى لغة الروح .
حين تسير بين أروقة المعبد تشعر أن كل زاوية وباب وقنطرة تهمس إليك بمعنى يتجاوز المادي إلى الرمزي العميق .
لم تترك هندسة ” معبد لالش النوراني ” شيئاً للصدفة .
فكل تفصيلة فيه تحمل دلالة روحية تجعل البناء بأكمله لغة صامتة تخاطب الإنسان بالرموز والإشارات وتعيد إليه وعيه بمكانه في دائرة الوجود لتغدو زيارته رحلة فلسفية وروحية في آن واحد .

القباب .. الكون في صورة معمارية .
القباب المخروطية لمعبد لالش النوراني ليست مجرد بناء حجري بل تجل حيّ للرؤية الإيزيدية للكون وانسجامه تحت إشراف النظام الإلهي .
تبدأ القبة من الأعلى برمز الشمس المصنوع من معدن لامع يشبه الذهب دلالة على النور الكوني ومصدر الحياة ثم تنحدر بانسياب مخروطي متسع كأشعة الشمس وهي تغمر الأرض . قاعدتها الدائرية ترمز إلى كروية الأرض فيما تستند على بناء ذي سبعة أضلاع تمثل الملائكة السبعة أركان الكون وحماته الروحيين في العقيدة الإيزيدية .
أما قاعدتها الأوسع فتقوم على أربعة أضلاع تشير إلى العناصر الأربعة الماء والتراب والنار والهواء ، في مقابل الجهات الأربع و الفصول الأربعة ، لتصبح القبة بذلك نموذجا مصغرًا لدورة الزمن وأبدية الكون. حتى الألوان التي تتدلى داخل القباب ليست مجرد زينة بل استحضار حيّ لألوان الطيف تذكير دائم بأن التنوع سر الجمال وأن وحدة الكون إنما تقوم على اختلاف مكوّناته وتكاملها .

الطقوس .. حين يلامس الإنسان الكون
حين يقبل الإيزيدي القباب أو يضع جبهته ويديه على جدرانها فإنه لا يقدس الحجر بذاته بل ينفتح على ما يرمز إليه من عناصر أزلية .
الفصول الأربعة ، الجهات الاربعة ، الملائكة السبعة ، دورة الشمس والزمن .
إنها لحظة اتحاد بين الأرض والسماء بين الإنسان والطبيعة حيث يطلب الزائر الأيزيدي السلام والبركة والديمومة لكل الكائنات .
وهكذا يغدو فعل التقبيل والتبرك ممارسة روحانية عميقة تعيد إلى الإنسان إحساسه بالسكينة والانسجام مع قوانين الكون وتذكره بمكانته في نسيج الوجود .

لفهم الإيزدياتي في جوهرها الأصيل .
الإيزدياتي ليست مجرد منظومة من الطقوس والعقائد بل هي مثل جذع شجرة ضاربة في أعماق حضارة وادي الرافدين حيث تفتحت أولى بذور الإنسانية وحيث خط أسلاف البشر ألواح العدالة وقوانين الحق وأنشدوا أناشيد الخير والخصب . جذورها تمتد في عمق آلاف السنين وفروعها تظلل القلوب بالرحمة وتوزع ثمارها محبة وسلاماً على كل إنسان مهما كان دينه أو أصله .
إنها استمرار لتلك الروح الرافدينية التي مجدت النور واحترمت الطبيعة ورأت في الإنسان قيمة عليا .
وهي خيمة تجمع أبناءها وتحفظ خصوصيتهم لكنها في الوقت ذاته تحمل رسالة كونية تدعو إلى الصدق والتسامح والوفاء بالعهود .
ومن جوهرها وأركانها تحريم الزور وشهادة الباطل ورفض تكفير الآخرين أو ازدراء معتقداتهم وصيانة أموال الناس وأعراضهم والبعد عن الربا والظلم والغيبة .
كما تدعو إلى بر الوالدين والإحسان إليهما وتحرم كل إساءة للمرأة أو المتاجرة بكرامتها وتؤكد على خصوصية الزواج بين أبنائها حفاظاً على الهويتها المستقلة .
تنهي الأيزدياتي عن عبادة غير الخالق ( خودي/الله ) الواحد الأحد .
إيماناً بأن الإنسان خلق ليكون صادقاً مع نفسه ومع خالقه لا عبداً للشهوات ولا للباطل .
وهكذا فالإيزدياتي ليست ديناً مغلقاً على ذاته بل تراث إنساني حي يعيد وصل حاضرنا بجذورنا الرافدينية العريقة ويمنح الإنسانية صوتاً يذكرها بأن قيم الخير والسلام والعدل ليست شعارات عابرة بل ميراث خالد تناقلته الأجيال منذ فجر الحضارة .

الأيزدياتي .. هوية صمدت عبر القرون .
لالش لم يكن يوماً مجرد معبد بل ظل عبر العصور حصناً منيعاً للهوية الإيزيدية وملاذاً روحياً احتضن أبناءها في وجه الظلم والاضطهاد والنكبات .
في أروقته تعانقت الطقوس والمواسم التي حفظت الذاكرة الجماعية ومنه خرج رجال الدين حاملين وصايا الديانة جيلاً بعد جيل .
واليوم حين يقصد الأيزيديين معبد لالش لا يؤدون مجرد حج ديني بل يمارسون فعلاً ثقافياً ومقاومة متجددة في وجه الإبادات ويجددون العهد مع هوية تأبى أن تنكسر رغم قرون من المحن .

معبد .. يمثل رسالة كونية .
ان ” معبد لالش النوراني ” ذلك النور المتجسد في الحجر والمعاني ، ليس إرثاً للإيزيديين وحدهم بل هي هدية كونية إلى الإنسانية بأسرها .
فهي صوت خافت يهمس بأن الدين يمكن أن يكون جسراً بين الإنسان والكون وأن الروح إذا صفت وجدت انسجامها مع الطبيعة في رمز أو طقس أو لحظة خشوع .
الوقوف على أرض لالش ليس عبوراً إلى معبد فحسب بل عبور إلى فضاء التأمل في سر القداسة ومعنى الوجود ووقفة تساؤل عن موقع الإنسان في هذا الكون الرحب وإشراق إيمان بأن التنوع ليس ندبة تفرق البشر بل زهرة تزهر في حديقة الحياة لتصير الاختلافات مصدراً للجمال ووعداً بالوحدة .

لالش .. تراث إنساني خالد
تماماً كما تخلد الأهرامات عبقرية الحضارة المصرية وكما تشهد معابد بابل على عبقرية بلاد الرافدين .
ينبض ” معبد لالش النوراني ” بروح خالدة ذاكرة حية تنبثق منها أصوات الماضي لتهمس في حاضرنا ومستقبلنا .
أنها ليس مجرد موقع ديني محلي بل رسالة حضارية تذكر العالم بأن الشعوب مهما صغرت أو تفرقت قادرة على أن تحفظ إرثها الروحي والثقافي وتترك بصمتها العميقة في سجل التراث الإنساني العالمي شاهدة على ثبات الإيمان الصمود والهوية عبر الزمن .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى