الجذور التاريخية والهوية الرافدينية للشعب الأيزيدي

مقالات / خالد الياس رفو

يشكل الأيزيديون أحد أقدم الشعوب الأصيلة التي استوطنت أرض الرافدين ، تلك الأرض التي شهدت انبثاق أولى الحضارات الإنسانية وتكون المفاهيم الأولى للوجود والعدالة والمعرفة .
تعود الجذور التاريخية للشعب الأيزيدي إلى أعماق التاريخ الرافديني ، إذ يتصل وجودهم اتصالاً عضوياً بالحضارات السومرية والأكدية والبابلية والآشورية وبما سبقها من ممالك وأقوام شكلت اللبنات الأولى للوعي الإنساني في تلك الأرض المقدسة .

يمثل الأيزيديون الامتداد الحي والوريث الطبيعي لأقوام مثل ( الهوريين والكوتيين والكاشيين والشمسانيين والأزدائيين والداسنيين ) الذين ساهموا في بناء النواة الثقافية والروحية للحضارة الرافدينية وعبروا عن رؤية كونية متقدمة في فهم العلاقة بين الإنسان والطبيعة والإله .

لقد حافظ الأيزيديون على ديانتهم الرافدينية القديمة على مدى آلاف السنين رغم ما تعاقب عليهم من غزوات وإبادات ومحاولات طمس ممنهجة لهويتهم .
الديانة الأيزيدية ليست منظومة طقسية فحسب بل فلسفة روحية عميقة تقوم على تقديس النور بوصفه مبدأ الخلق الأول وعلى الإيمان بـ العدالة الإلهية الكونية كقانون منظم للوجود وعلى احترام الإنسان بوصفه تجلياً للإرادة الإلهية في العالم .
وترتقي الديانة الأيزيدية بقيم الخير والجمال والتسامح وتؤكد على وحدة الخلق وتعدد التجليات وتمنح الطبيعة قدسية خاصة باعتبارها انعكاساً للنظام الكوني المتوازن .
وهي بذلك تمثل استمراراً حياً للروحانية الرافدينية القديمة التي سبقت الأديان الإبراهيمية وعبرت عن نظرة توحيدية كونية سباقة تجاوزت الحدود المذهبية والعقائدية التي عرفها العالم لاحقاً .

الهوية الأيزيدية هي كيان حضاري متكامل

الهوية الأيزيدية هي هوية إثنية ـ دينية متكاملة تعرف باسم « الأيزيدياتي » وهي ليست مجرد انتماء ديني ضيق بل كيان حضاري شامل يجمع بين الدين والقومية واللغة والتراث في وحدة ثقافية وإنسانية فريدة .
فاللغة الأيزيدية التي تمتد جذورها إلى اللغات الرافدينية الشرقية القديمة تمثل وعاءً حياً للذاكرة التاريخية والروحية لهذا الشعب ومنها اشتقت لاحقاً لغات عدة أبرزها الكرمانجية التي لا تزال تحتفظ في بنيتها اللغوية والرمزية بآثار تلك الحضارة الأولى .

إن الأيزيدياتي ليست مجرد هوية إثنية عابرة بل شهادة على استمرارية الحضارة الرافدينية في أعمق صورها الإنسانية وتجسيد لجوهر الرسالة الروحية التي حملتها تلك الأرض منذ الأزل ( رسالة النور والعدالة والكرامة الإنسانية ) .
من هذا المنطلق فإن الاعتراف الدولي بالأيزيديين كشعب أصيل من شعوب الرافدين ليس فقط واجباً قانونياً وأخلاقياً بل ضرورة حضارية لصون التراث المادي والروحي الذي يمثل جزءاً لا يتجزأ من الإرث الإنساني العالمي الذي جسدته حضارة ميزوبوتاميا .

الفرمانات والإبادات التاريخية ضد الشعب الأيزيدي

عرفت الذاكرة الأيزيدية سلسلة طويلة من حملات الإبادة الجماعية التي سميت بـ « الفرمانات » وهي تمثل فصولاً دامية من الاضطهاد الديني والقومي والإنساني .
وقد تجاوز عدد هذه الحملات الموثقة تاريخياً أكثر من سبعين فرماناً نفذتها سلطات وإمارات وقوى دينية وسياسية مختلفة لكنها جميعاً التقت في هدف واحد هو القضاء على الوجود الأيزيدي وطمس هويته الحضارية .

بدأت هذه الحملات منذ العهدين الأموي والعباسي حين جرى تكفير الأيزيديين ووصفهم بـ « الكفار والمشركين وعبدة الشيطان » وهي أوصاف كاذبة كما انها لم تكن مجرد تعبيرات تحقيرية بل أدوات فكرية استخدمت لتبرير استباحة دمائهم وأراضيهم وممتلكاتهم ومقدساتهم .
وفي إطار تلك السياسات تمت مصادرة أملاكهم وقتل رجالهم واسترقاق نسائهم وأطفالهم وتدمير قراهم ومزاراتهم الدينية في محاولة لاقتلاعهم من موطنهم التاريخي الذي يُعرف باسم أيزيدخان والذاكرة المجتمعية الأيزيدية و الكردية مازالت تحتفظ بهذه التسمية لكن باتت اليوم تعرف باسم كردستان حتى تم حصر الشعب الأيزيدي وجودهم لاحقاً في مناطق سنجار ( شنكال ) وبعشيقة وبحزانى والشيخان وسهل نينوى .

وفي العصور اللاحقة تفاقمت المذابح في ظل السلاجقة والأيوبيين ثم بلغت ذروتها في العهدين العثماني والصفوي حيث تحول الاضطهاد إلى مشروع منظم للإبادة الجماعية استهدف الوجود الأيزيدي المادي والروحي معاً سواء عبر القتل المباشر أو من خلال الأسلمة القسرية وطمس الهوية الثقافية .

الهوية الأيزيدية المستقلة بين الرافدين والإنسانية

تعد الديانة الأيزيدية إحدى أقدم الديانات الرافدينية الحية ذات النظام الروحي والفلسفي المتكام، القائم على رؤية كونية وإنسانية ترى في النور مبدأ الخلق الأول وفي الإنسان كائناً مكلفاً بإعمار العالم بالخير والنور لا بالحرب والكراهية .

هي ديانة لا تنتمي إلى الأديان الإبراهيمية ولا تشتق منها بل اقدم منها وهي تمثل امتداداً أصيلاً للروحانية الرافدينية القديمة التي بشرت بفكرة الخير الكامن في الوجود والتناسق بين الإنسان والطبيعة والإله .

تقوم العقيدة الأيزيدية على مبدأ الحرية الروحية والمسؤولية الأخلاقية وتعيد تعريف العلاقة بين الخالق والمخلوق على أساس المحبة والثقة والانسجام لا على الخوف والعقاب .
إنها منظومة فكرية وروحية متكاملة تربط بين الروح والفكر والطبيعة في وحدة وجود متناسقة .

من الناحية القومية والأنثروبولوجية يشكل الأيزيديون كياناً حضارياً مستقلاً يعرف باسم [ الأيزيدياتي ] التي يجمع بين الانتماء الديني والقومي واللغوي والثقافي في وحدة لا واحدة لا تنفصل .
كما أن الثقافة الأيزيدية تحمل إرثاً حضارياً غنياً يضم تراثاً أدبياً وشعرياً ودينياً يعكس رؤية كونية متوازنة بين الروح والكون والطبيعة .
فالإنشاد الديني والملاحم الشعرية والطقوس الروحية ليست تراثاً فلكلورياً فحسب بل وثائق حية لفلسفة روحية متجذرة في عمق التاريخ الإنساني .

وتؤكد الدراسات أن كثيراً من عناصر الفلكلور الكردي الحديث مستمدة من الموروث الأيزيدي القديم سواء في الرموز أو الألحان أو المفردات أو الأساطير مما يدل على أن الأيزيديين يمثلون الأصل الثقافي والتاريخي للشعوب الجبلية في شمال بلاد الرافدين .
فالمنطقة التي تعرف اليوم بـ « كردستان » كانت تسمّى قديماً « أيزيدخان » أي أرض الأيزيديين وهو الاسم الذي يعكس الجذر التاريخي والسيادي لهذا الشعب في تلك الجغرافيا قبل التحولات القومية اللاحقة .

دعوة للاعتراف والحماية الدولية

إن الهوية الأيزيدية المستقلة تمثل حقاً تاريخياً وإنسانياً غير قابل للتصرف تكفله المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الشعوب الأصلية في الاعتراف بخصوصيتها الدينية والثقافية واللغوية .
والاعتراف الرسمي بهذه الهوية لا يعد إنصافاً لشعب مضطهد فحسب بل وفاءً للذاكرة الحضارية للإنسانية التي لا تكتمل إلا بترميم حضور الأيزيديين في سجل الشعوب الأصيلة التي أسهمت في بناء حضارة الرافدين والعالم القديم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى