الله الكثير إيزيدياً
مقالات/ هوشنك بروكا
كانت الديانة الإيرانية القديمة، تتصف بتعدد الآلهة، وكانت النار (آكني) تلعب دوراً رئيسياً فيها. وفي منطقة ميتاني في أعلى الفرات كانت الآلهة التي تعبد هي آهورا ومترا وإندرا وغيرها . واتخذت المجوسية من الإله آهورامازدا وميثرا وأهريمن ثالوثاً إلهياً مقدساً لها. فالأول خالق والثاني ابنه وهما أزليان، أما الثالث فهو حسب اعتقاد الإيرانيين القدامى (المجوس) مهلك ومبتدع . يتبين من خلال الإطلاع على عقيدة المجوس أن فكرة الإله الواحد كانت قد ظهرت في إيران منذ عهدٍ مبكر، لأن تلك العقيدة أعطت دوراً كبيراً للإله الأول من الثالوث (آهورامزدا)، إلى جانب تقديس الآلهة الأخرى. واستطاع زردشت أن يوصل الديانات الآرية القديمة إلى مشارف التوحيد، بعد أن غيّر بعضاً من أصول الديانة المجوسية، مما حدى ببعض الباحثين إلى أن ينظروا إلى الزردشتية، بإعتبارها فرعاً من فروع الدين المجوسي .
وحسب المعتقد الإيراني القديم، كان هناك في الكون آلهة عظمى، إلى جانب آلهة أخرى تسمى بالأعوان، أي (الآلهة المساعدة أو الآلهة الطرفية)، وهي أعوانٌ مهمة، تجب لها العبادة، تعرف بـ”اليزاتا” أو “الإيزيدا” (بمعنى الأعوان). وكان على رأس هذه الأعوان الإله ميثرا الذي كان مساوياً لـ”آهورامزدا”، قبل أن يرتقي هذا الأخير، مع دعوة زردشت، إلى مكانة الإله الأعظم . فـ”الإيزيدا” أو الـ”أزدا”، حسب جورج حبيب ، هو الإله الأعظم في الديانة الإيزيدية، الذي منه اشتق إسمها “الإيزيدية” (وليس اليزيدية كما ذهب إليه البعض، ناسبين إياها إلى يزيد بن معاوية) .
والحالُ، فإنّ ديانة طاوسي ملك، سُميت بـ”الإيزيدية/ الإيزدية/ الإيزَدية” نسبةً إلى “إيزي Ezi”. و”إيزيEzi”(هكذا مخففاً يلفظه الإيزيديون، بدون حرف الياء في أول الكلمة، أو حرف الدال في نهايتها، كما هو الحال في لفظة “يزيد” العربية) في الإصطلاح الإيزيدي، يفيد معنى الإله، وهو إسمٌ من أسمائه الكثيرة. وترد هذه اللفظة بذات المعنى، كدلالة على ذات الإله الإيزيدي أو الألوهة الإيزيدية الكلاّنية، في الكثير من النصوص الدينية، لهذه الديانة . فـ”إيزدا/ إيزيدا/ إيزاتا” التي تحولت لاحقاً، إلى “أزدا Ezda /”، هي لفظة كردية مركبة من “أز + دا”. و”أز/ Ez” تعني أنا، ودا/ da تفيد معنى أعطى، خلق. فـ”أزدا” المركبة، تقابل في الكردية معنى، “الذي خلقني” أو “الخالق”/ الإله. ومن هنا، ذهب البعض إلى وصف الإيزيديين وتسميتهم بالـ”أزدايين/ أزداهيين”، أي أتباع الله/ الـ”أزدا”. وفي ذات الوقت الذي نرى فيه الله، كردياً، على المستوى الفيلولوجي، قد تَسَمّى بالـ”أزدا”، باعتباره خالقاً للآخر، نراه يُسمى بالـ”خوه دا/ خوه دي”، بإعتباره خالقاً لنفسه أيضاً. إنّ لفظة “خوه دي Xwedê/ خوه دا Xweda”، إيزيدياً، المركبة من مفردتي((Xwe+da/Xwe+dê/Xwe+didê، والتي تعني في اللغة الكردية (لسان الله حسب الميثولوجيا الإيزيدية) معنى “الخالق لذاته بذاته”، تقابل المعنى ذاته أي “الله/الخالق”، على المستويين الميثولوجي والثيولوجي. والـ”خوه دي”، أي الله الإيزيدي، هو إله كثير، كما يبدو من تبدياته وتجلياته الكثيرة، في النصوص الإيزيدية (أدعية، أقوال، أسفار…الخ)، وطقوس التكرار لأزمنته المقدسة على مدار السنة. فالله/خوه دي، حسب المعتقد الإيزيدي، بقدر ما يكون ذاته، فهو يكون “طاوسي ملك” حيناً، و”شيشيمس” حيناً آخر، وآلهةً من هنا وهناك، وفي هذا الشأن أو ذاك، أحياناً أخرى.
ففي الوقت الذي تتخذ فيه بعض الأديان (المسماة بالسماوية مثلاً) من “معتقد التوحيد” أساساً لعباداتها، فإنّ الإيزيدية قد اتخذت من “وحدانية العبادة” جهةً لدخول العابد/عابدها، إلى الكون الألوهي الكثير. فالإيزيديون يعبدون إلى جانب “الله/خوه دي، طاوسي ملك، شيشيمس” كثالوث ألوهي مقدس، آلهة وأرباب أخرى كثيرة. فهم، بالتالي، يوحدون “الله الكثير” في ذواتهم الكثيرة، للوصول إلى ما سماه الباحث السوري فراس السواح بـ”وحدانية العبادة” . وعليه، فإنّ الإيزيدية (وبعيداً عن المنطق العقائدي الجامد)، هي ديانة بوليثيزمية Polytheismus بإمتياز . من السهولة بمكان، لإيّ متتبعٍ أو دارسٍ لشئون الـ”خوه دا”/ “أزدا”/ “يزدان”/ الإله الإيزيدي، أن يكتشف هذه التعددية الألوهية في الممارسات الطقسانية، وتفاصيل الحياة الدينية، للإيزيديين بعامتهم وخاصتهم، بمريديهم و”دنافيهم” (بير، شيخ)، الذين لا يتوانون عن ذكر الـ”خو ه دي”/ الـ”أزدا”/ الله، أو الدعاء له، في كونه واحداً كثيراً، وكثيراً واحداً، في الآن نفسه.
فيُدعى له في النصوص الإيزيدية، طوراً، على أنه الـ”خوه دا/ أزدا”/الله “الأزل”، والله “الواضع للشمس والقمر”، و”الله المسمى بألف إسمٍ وإسم” ، و”الله العقل”، و”الله اللسان”، و”الله السؤال” ، و”الله الخير والشرّ” . وطوراً آخر، على أنه “الله الطاوسي ملك”، “الخالق نفسه بنفسه”، و”الأزلي”، و”الرّب السماء”، و”الرّب الشمس والقمر”، و”الرّب العطاء”، و”الرّب العالي على كلّ الأسماء”، و”الرّب العرش”، و”الرّب المكان/كلّ المكان”، و”الرّب الزمان/ كلّ الزمان”، و”الرّب الجهات الأربعة والعناصر الأربعة”، و”الرّب الطبقات الأربعة عشر”، و”الرّب الجاه”، و”الرّب الّلالون والّلاصوت والّلالحن”، و”الرّب العالم”، و”الرّب الداء والدواء” ، في ذات الوقت الذي يُعبد فيه، بإعتباره “الله الشيشيمس”، و”الشمس الإله”، و”الإله الفارس من المشرق إلى المغرب”، و”الإله السائل عن الحال”، و”الإله الملاك القديم” ، أطواراً أخرى. هكذا، يُعبد الله، إيزيدياً، في تعدديته وكثرته. ففضلاً عن تقرّب الإيزيدي إليه في كونه الله الـ”خو ه دي” أو الله الـ”أزدا”، والله الـ”الطاووس ملك” والله الـ”شيشيمس” كتجلٍّ أو تبدٍّ لله المركز، فإنّه يعبد في الآن ذاته، كإلهٍ أنحائي، طرفي، متجسد في آلهةٍ، أو أنصاف أو أشباه آلهةٍ أخرى كثيرة.
فالإيزيدي يسجد للأفعى الأولى/ شيخ مند، وللنار الأولى/بير آلي (أو ربما بير آري)، وللأرض الأولى/ لالش، وللشجرة الأولى/ شجرة الهرهر، وللتراب الأول/ البرات، وللقمر الأول/ ملك فخردين، وللنبع الأول/ كانيا سبي، والحب الأول والحياة الأولى/ ناهيد أو آناهيتا، وللولادة الأولى/ خاتونا فخران، وللمطر الأول/ مهمد رشان، وللريح الأولى/ شيخموسي صور، وللطوفان الأول/ بيرا فات، وللرعد الأول/ شيخ عبروس، وللوح والقلم الأوّلين/ شيخ سن …الخ؛ يعبد الإيزيدي كل هذا “الله الطرفي الكثير”، عبادةً مجاورةً لعبادته الأساس، “لله المركز” الأساس/خو ه دي/ أزدا/ يزدان. فهو، إذ يتجاور في سجوده لتلك الآلهة أو أشباهها، للسجود الأصل للـ”خوه دا المركز” الأصل، إنما يتقرب منها، (سواء لنيل رضاها استثابةً لخيرها أو لتجنبها إتقاءً لشرّها)، باعتبارها بعضاً من الله، أو بعضاً من ظهوراته، أو تبدياته، أو حلولاته، أو وجوداته.
إن الوحدانية وفقاً للتصوّر الإيزيدي، هي وحدانية تختلف كلّياً عن الوحدانيات السائدة والمتعارَف عليها (الوحدانيات السامية في الأقل). فالوحدانية الإيزيدية، هي وحدانيةٌ مشوّبةٌ وهجينة. بكلامٍ آخر، أيّ فضلاً عن وجوب عبادة الله المركز/ الـ”خو ه دي”، حسبما تخبرنا به الميثولوجيا واللاهوت الإيزيديين، على أنّه كلّ الله، كلّ العالم وما قبله وما بعده، وكلّ الخير وكلّ الشرّ، وكلّ الملائكة وكلّ الجان، على مستوىً، فإنّ الميثولوجيا واللاهوت الإيزيديين، ذاتيهما، يستوجبان في الآن ذاته، عبادة مجمعٍ كثيرٍ، مكوّنٍ من الآلهة الطرفية، أو أنصاف أو أرباع الآلهة وأشباهها، على مستوياتٍ أخرى.
اعتماداً على ما سبق من تعدديةٍ ألوهية (بوليثيزم/ Polytheismus)، تتسم بها العبادات الإيزيدية، إذ يستغرق المقيمون فيها إلى جانب استغراقهم الأساس في الله المركز، آلهةً أو بعض آلهةٍ أخرى، يمكن القول: إنّ الإيمانيات وفقاً لتصورات هذه الديانة، تتأسس على وحدانيةٍ سابقة لوحدانيات المعتقدات التوحيدية (مونوثيزم/Monotheismus) الشمولية، فضلاً عن أنّها وحدانية “خلافية”: فبقدر ما يمكن/ أو يجوز لله أن يكون في الإلهيات الإيزيدية واحداً أحداً، يمكن/ أو يجوز له أن يكون متعدداً وكثيراً. وعليه يمكن تصنيف الديانة الإيزيدية ودراستها ضمن مجموعة الديانات والمعتقدات التي تتخذ من “وحدانية العبادة” لله الكثير، فلسفةً تنظر من خلالها إلى الإنسان والطبيعة وإلى ماوَرائهما. وحسبما يخبرنا تاريخ الدين/ كلّ الدين وبالتالي تاريخ الله والإنسان/ كلّ الله، وكلّ الإنسان، في السياق عينه، (فـ)قد نشأ معتقد التوحيد عن معتقد “وحدانية العبادة” السابق عليه، والذي يقوم على عبادة إلهٍ واحد من دون بقية الآلهة التي لا يُنكر وجودها. كما نشأت وحدانية العبادة بدورها عن الوثنية التعددية التي تقوم على عبادة مجمعٍ للآلهة مؤلفٍ من مراتبيةٍ هرمية للقوى الإلهية، تُقدم لها جميعاً فروض العبادة، كلٌ بما يناسب مقامه، وأهمية القوة الطبيعانية التي يمثلها بالنسبة إلى حياة الجماعة .